ثقافة
الأربعاء 5-10-2011
عبدالكريم الناعم
-1- في غمرة الأحداث التي يمر بها وطننا العربي، ثمة تساؤل مشروع وهو: «أين هو الأدب من هذه المجريات المصيرية»؟!.
السؤال السابق يعيد طرح أسئلة أخرى تتعلق بدور الأدب في المجتمع، لافرق أن يكون هذا الدور توعوياً، أو جمالياً، بيد أن منطق العقل المرتبط بالحراك العام، قد يفضل تقديم الأحداث الساخنة الفاعلة على ماهو بارد، أو فاتر، وخامد، وخاصة في زمنه المحدد.
لقد لعبت المركزية الأوروبية دوراً مؤثراً في سحب مسألة دور الإبداع عامة من معركة مواجهة الظلم، والفقر، والقمع، وكل مايسيء لكرامة الإنسان، من لقمة الخبز وحتى الحرية المناسبة، المسؤولة، لاحرية الانفلاش، واعتبار حرية التمتع بالجسد وحده أم الحريات!! وبذلك سحبت دور الأدب الاجتماعي من التداول.
لنتذكر هنا أن حرية الغرب لم تحتمل أن ترتدي امرأة مسلمة الحجاب الشرعي في تلك البلدان، وهذا يذكرنا بالقول المعروف: لكم أنت مظلومة أيتها الحرية، كما أنه يشي بأن ثمة تعصباً، هو ديني في موضع الدين، ويتشبه بالديني حين يكون خارج العصبوية الدينية.
هذا النشدان الغربي في مواجهة الرؤية الماركسية لدور الإبداع في المجتمع، لم ينته بتفكيك المنظومة الاشتراكية، بل استمر عن طريق غلبة، وتغليب كل الرؤى الفردية الراشحة من مفهوم اقتصاد السوق، بزعم أن المقدس الأقدس هو الحرية الفردية، وهوشعاركاذب وخادع، جرى ترويجه فكرياً وأدبياً بتساوق مع تعميم مظاهر العولمة المتوحشة التي تريد إحلال ظواهر النموذج الحياتي الغربي محل ثقافة الشعوب الأخرى، وتسليع السلوك، والتفكير بما يناسب روح تلك (المدنية) الغربية، ولا أقول (الحضارة)، التي بدأت تظهر أمراض النهب، والإثراء الفاحش فيها، والتردي الأخلاقي، بل والموقف الذي تزكم الأنوف من رائحة التعصب الديني فيه، من منطلق أن ماعليه الغرب هو دينها، مع الإصرار على القطع، مع أن هذا الدين الذي هي عليه، قد اتقدت شعلته في فلسطين المحتلة، وهذا التنكر، وهذه الغطرسة النهبوية تحظى باصطفاف عربي غير مسبوق.
إن إقصاء أن يكون للفنون عامة دور تربوي تعبوي يحيل الإبداع إلى ذلك الغناء الذاتي البحت، والهذيانات البرانية أو الجوانية، ولست اعترض على من ينحو شريطة ألا يدخله في الأحادية المدمرة.
أوليست مدارس النقد الأدبي الوصفية، على اختلاف مناهجها ومدارسها إفرازاً لتلك التوجهات؟!.
إنها تفريغ للإبداع من روحيته الكامنة، والبعيدة الغور، واستبعاد للمعاني المقصودة لمصلحة القشرة التوصيفية الخارجية، تماماً كما تسعى العولمة المتوحشة إلى تدمير مايميز هذا الشعب عن ذاك، فيما لايتناقض مع كرامة الإنسان، بل بما يرتبط وجوباً بالدفاع عنها.
-2-
نعود لسؤالنا: «أين هو الأدب من المجريات المصيرية».
أعتقد أن الأهمية لاتكمن في: «هل يسبق الإبداع الأحداث، أو يتبعها، أم يواكبها، لأن في كل مفصل من هذه المفاصل قدر من الصحة، وهي لاتقدم ولاتؤخر في القيمة الإبداعية.
لا شك أن من يدقق سيجد أن ريادة ما في الإبداع بل وبعض النبوءات التي لايدري بها الشاعر، على وجه الخصوص، بحكم القرابة المخصوصة بين الشعر والغيب عامة، من الكهانة، وحتى عوالم النبوة «إن من البيان لسحرا» وبحكم درجة الوعي، ونشاط الأعماق.
هذه الريادة ليست مقطوعة التواصل بمعطيات الواقع، بل ثمة تركيبة ما بينها، وبين مرتسمات الواقع، وبين مايراه النص أنه سيكون، ومن يتتبع قصائد الشعراء العرب الحداثيين سيجد لديهم الكثير من الشواهد على هذا، وقد تشكل مادة للبحث لمن يريد.
يواجه مجتمعنا العربي حالة زلزال عنيفة، من المحيط إلى الخليج، وليست المناطق الساكنة فيها بأقل تأثراً، من حيث النتائج النهائية التي ظهرت فيها مفاعيل ذلك الزلزال، وما يصيب الأطراف، أو يبدأ فيها سيصل حكماً إلى المركز، هذا إن لم نقل إن بعض الأطراف في التصنيف الجغرافي هي مركز في الفاعلية.
-3-
لاشك أن الكتابات النثرية ذات المواصفات التحليلية، أو التعبوية تطغى لحظة بداية الفعل، وهذا أمر طبيعي، بحكم أنها كتابات تبنى على الانتماء، وعلى الرؤية لا على الرؤيا، وعلى الحماس الذي يشبه الهبة لإطفاء الحريق، وهذا ليس من طبيعة الإبداع بل من طبيعة المبادرة.
كل مانقوله الآن مأخوذ من مناطق القياس على ماسبق أن عرفناه، ولسنا ننكر أن تكون ثمة إبداعات لدى البعض، ولكنها لم تظهر وهذه مسألة طبيعية، ولها أسبابها:
من هذه الأسباب أن ينتظر صاحب نص أين ستكون الكفة الراجحة، وهذا من طبائع البشر، وليس من طبيعة المبادئ.
ومنها عدم وجود مايناسب من فضاءات النشر، ومنها الخوف من (السلطة) حين لايكون الكلام مما ترضى عنه، ومنها أن البعض تشغلهم سرعة الأحداث، وتطوراتها، فينخرطون فيها، كتابة، وتحليلاً، ومناقشة، وأسلوباً يصل للجميع، بينما لايصل النص الإبداعي، في الغالب، إلا إلى النخبة.
-4-
لايمكن معرفة درجة الإبداع بين نص وآخر إلا بعد مثولهما، غير أن بعض مفردات النص يمكن معرفتها منذ الآن، قياساً على ماعرفناه في قصائد المراحل المشابهة، ففي العراق مثلاً، وبحسب قراءتي، وبحسب سماعي لعدد من قصائد الشعراء العراقيين، في العامين اللذين سبقا احتلال العراق وتدميره.. أستطيع القول إن ثمة مفردات مأخوذة مما طغى على الحياة العراقية وهي: الشكوى، الألم، الحزن، الاعتداء، الأرامل، اليتامى، قوافل الذاهبين إلى الجبهة للحرب، الخوذة، لون الخاكي، السيارات العسكرية، وكل مايمكن أن يحفل به هذا المشهد الحربي.
قياساً على هذا أستطيع القول إننا سنقرأ قصائد في سورية، مستقبلاً تكثر فيها مفردات: النعوش، الرصاص، الدم، البلطات، السكاكين، الجثث الممزقة، الجزع الخ.
المفردات في مثل هذه الحالة هي مادة، حجارة تصلح للبناء، ولايحكم عليها إلا حين تستقر في المدماك، وحين يأخذ المدماك استقراره في البناء المنجز، وبغض النظر عن فنيتها الإبداعية والجمالية، فإنها تظل شاهد مرحلة، وما أظن أن هذا يقلل من قيمتها التاريخية من هذه الناحية، وهي في أضعف الحالات تكون كتلك الإبداعات الشعبية في الأغاني، وفي القصائد المروية، والتي قد يعيينا البحث عن الإبداع فيها، بينما هي شاهد تاريخي قد يكون وحيداً في بعض الأحيان، كتلك الشواهد في الشعرالشعبي عن بعض الثورات المحلية فترة الاحتلالين التركي والفرنسي.
هنا لابد من ملاحظة أن السبق التاريخي، أو الدخول في سياق التاريخ لايتعدى كونه سبقاً، ولاعلاقة له بالقيمة الإبداعية، فهو يصنف في خانته، وبما فيه من حمولات، وعلامات منقولة من الواقع، أوشاهدة عليه، وبذلك لايتعدى العمل المنجز أنه رصف للحجارة، وترتيب للمداميك، وقد يأتي متأخراً في الزمان فيستلهم الحالة ويقدمها بجمالية لافتة دون أن يعيشها.
أليس ماكتبه عمر أبو ريشة ونزار قباني عن الأندلس فيه من الرثاء، والجمالية، والحنين، مالم يرد في قصائد شعراء رثوا الأندلس بعد سقوطها؟!.
أعتقد أن الدور الأدبي الأصيل، حتى حين يتأخر يظل من خيرة الشواهد الفنية، والتاريخية، وخاصة حين لاينجر صاحبه إلى مزالق الأهواء، والانفعالات التي تعود إلى ماقبل المدينية.
alnaem@gmail.com
الأربعاء 5-10-2011
عبدالكريم الناعم
-1- في غمرة الأحداث التي يمر بها وطننا العربي، ثمة تساؤل مشروع وهو: «أين هو الأدب من هذه المجريات المصيرية»؟!.
السؤال السابق يعيد طرح أسئلة أخرى تتعلق بدور الأدب في المجتمع، لافرق أن يكون هذا الدور توعوياً، أو جمالياً، بيد أن منطق العقل المرتبط بالحراك العام، قد يفضل تقديم الأحداث الساخنة الفاعلة على ماهو بارد، أو فاتر، وخامد، وخاصة في زمنه المحدد.
لقد لعبت المركزية الأوروبية دوراً مؤثراً في سحب مسألة دور الإبداع عامة من معركة مواجهة الظلم، والفقر، والقمع، وكل مايسيء لكرامة الإنسان، من لقمة الخبز وحتى الحرية المناسبة، المسؤولة، لاحرية الانفلاش، واعتبار حرية التمتع بالجسد وحده أم الحريات!! وبذلك سحبت دور الأدب الاجتماعي من التداول.
لنتذكر هنا أن حرية الغرب لم تحتمل أن ترتدي امرأة مسلمة الحجاب الشرعي في تلك البلدان، وهذا يذكرنا بالقول المعروف: لكم أنت مظلومة أيتها الحرية، كما أنه يشي بأن ثمة تعصباً، هو ديني في موضع الدين، ويتشبه بالديني حين يكون خارج العصبوية الدينية.
هذا النشدان الغربي في مواجهة الرؤية الماركسية لدور الإبداع في المجتمع، لم ينته بتفكيك المنظومة الاشتراكية، بل استمر عن طريق غلبة، وتغليب كل الرؤى الفردية الراشحة من مفهوم اقتصاد السوق، بزعم أن المقدس الأقدس هو الحرية الفردية، وهوشعاركاذب وخادع، جرى ترويجه فكرياً وأدبياً بتساوق مع تعميم مظاهر العولمة المتوحشة التي تريد إحلال ظواهر النموذج الحياتي الغربي محل ثقافة الشعوب الأخرى، وتسليع السلوك، والتفكير بما يناسب روح تلك (المدنية) الغربية، ولا أقول (الحضارة)، التي بدأت تظهر أمراض النهب، والإثراء الفاحش فيها، والتردي الأخلاقي، بل والموقف الذي تزكم الأنوف من رائحة التعصب الديني فيه، من منطلق أن ماعليه الغرب هو دينها، مع الإصرار على القطع، مع أن هذا الدين الذي هي عليه، قد اتقدت شعلته في فلسطين المحتلة، وهذا التنكر، وهذه الغطرسة النهبوية تحظى باصطفاف عربي غير مسبوق.
إن إقصاء أن يكون للفنون عامة دور تربوي تعبوي يحيل الإبداع إلى ذلك الغناء الذاتي البحت، والهذيانات البرانية أو الجوانية، ولست اعترض على من ينحو شريطة ألا يدخله في الأحادية المدمرة.
أوليست مدارس النقد الأدبي الوصفية، على اختلاف مناهجها ومدارسها إفرازاً لتلك التوجهات؟!.
إنها تفريغ للإبداع من روحيته الكامنة، والبعيدة الغور، واستبعاد للمعاني المقصودة لمصلحة القشرة التوصيفية الخارجية، تماماً كما تسعى العولمة المتوحشة إلى تدمير مايميز هذا الشعب عن ذاك، فيما لايتناقض مع كرامة الإنسان، بل بما يرتبط وجوباً بالدفاع عنها.
-2-
نعود لسؤالنا: «أين هو الأدب من المجريات المصيرية».
أعتقد أن الأهمية لاتكمن في: «هل يسبق الإبداع الأحداث، أو يتبعها، أم يواكبها، لأن في كل مفصل من هذه المفاصل قدر من الصحة، وهي لاتقدم ولاتؤخر في القيمة الإبداعية.
لا شك أن من يدقق سيجد أن ريادة ما في الإبداع بل وبعض النبوءات التي لايدري بها الشاعر، على وجه الخصوص، بحكم القرابة المخصوصة بين الشعر والغيب عامة، من الكهانة، وحتى عوالم النبوة «إن من البيان لسحرا» وبحكم درجة الوعي، ونشاط الأعماق.
هذه الريادة ليست مقطوعة التواصل بمعطيات الواقع، بل ثمة تركيبة ما بينها، وبين مرتسمات الواقع، وبين مايراه النص أنه سيكون، ومن يتتبع قصائد الشعراء العرب الحداثيين سيجد لديهم الكثير من الشواهد على هذا، وقد تشكل مادة للبحث لمن يريد.
يواجه مجتمعنا العربي حالة زلزال عنيفة، من المحيط إلى الخليج، وليست المناطق الساكنة فيها بأقل تأثراً، من حيث النتائج النهائية التي ظهرت فيها مفاعيل ذلك الزلزال، وما يصيب الأطراف، أو يبدأ فيها سيصل حكماً إلى المركز، هذا إن لم نقل إن بعض الأطراف في التصنيف الجغرافي هي مركز في الفاعلية.
-3-
لاشك أن الكتابات النثرية ذات المواصفات التحليلية، أو التعبوية تطغى لحظة بداية الفعل، وهذا أمر طبيعي، بحكم أنها كتابات تبنى على الانتماء، وعلى الرؤية لا على الرؤيا، وعلى الحماس الذي يشبه الهبة لإطفاء الحريق، وهذا ليس من طبيعة الإبداع بل من طبيعة المبادرة.
كل مانقوله الآن مأخوذ من مناطق القياس على ماسبق أن عرفناه، ولسنا ننكر أن تكون ثمة إبداعات لدى البعض، ولكنها لم تظهر وهذه مسألة طبيعية، ولها أسبابها:
من هذه الأسباب أن ينتظر صاحب نص أين ستكون الكفة الراجحة، وهذا من طبائع البشر، وليس من طبيعة المبادئ.
ومنها عدم وجود مايناسب من فضاءات النشر، ومنها الخوف من (السلطة) حين لايكون الكلام مما ترضى عنه، ومنها أن البعض تشغلهم سرعة الأحداث، وتطوراتها، فينخرطون فيها، كتابة، وتحليلاً، ومناقشة، وأسلوباً يصل للجميع، بينما لايصل النص الإبداعي، في الغالب، إلا إلى النخبة.
-4-
لايمكن معرفة درجة الإبداع بين نص وآخر إلا بعد مثولهما، غير أن بعض مفردات النص يمكن معرفتها منذ الآن، قياساً على ماعرفناه في قصائد المراحل المشابهة، ففي العراق مثلاً، وبحسب قراءتي، وبحسب سماعي لعدد من قصائد الشعراء العراقيين، في العامين اللذين سبقا احتلال العراق وتدميره.. أستطيع القول إن ثمة مفردات مأخوذة مما طغى على الحياة العراقية وهي: الشكوى، الألم، الحزن، الاعتداء، الأرامل، اليتامى، قوافل الذاهبين إلى الجبهة للحرب، الخوذة، لون الخاكي، السيارات العسكرية، وكل مايمكن أن يحفل به هذا المشهد الحربي.
قياساً على هذا أستطيع القول إننا سنقرأ قصائد في سورية، مستقبلاً تكثر فيها مفردات: النعوش، الرصاص، الدم، البلطات، السكاكين، الجثث الممزقة، الجزع الخ.
المفردات في مثل هذه الحالة هي مادة، حجارة تصلح للبناء، ولايحكم عليها إلا حين تستقر في المدماك، وحين يأخذ المدماك استقراره في البناء المنجز، وبغض النظر عن فنيتها الإبداعية والجمالية، فإنها تظل شاهد مرحلة، وما أظن أن هذا يقلل من قيمتها التاريخية من هذه الناحية، وهي في أضعف الحالات تكون كتلك الإبداعات الشعبية في الأغاني، وفي القصائد المروية، والتي قد يعيينا البحث عن الإبداع فيها، بينما هي شاهد تاريخي قد يكون وحيداً في بعض الأحيان، كتلك الشواهد في الشعرالشعبي عن بعض الثورات المحلية فترة الاحتلالين التركي والفرنسي.
هنا لابد من ملاحظة أن السبق التاريخي، أو الدخول في سياق التاريخ لايتعدى كونه سبقاً، ولاعلاقة له بالقيمة الإبداعية، فهو يصنف في خانته، وبما فيه من حمولات، وعلامات منقولة من الواقع، أوشاهدة عليه، وبذلك لايتعدى العمل المنجز أنه رصف للحجارة، وترتيب للمداميك، وقد يأتي متأخراً في الزمان فيستلهم الحالة ويقدمها بجمالية لافتة دون أن يعيشها.
أليس ماكتبه عمر أبو ريشة ونزار قباني عن الأندلس فيه من الرثاء، والجمالية، والحنين، مالم يرد في قصائد شعراء رثوا الأندلس بعد سقوطها؟!.
أعتقد أن الدور الأدبي الأصيل، حتى حين يتأخر يظل من خيرة الشواهد الفنية، والتاريخية، وخاصة حين لاينجر صاحبه إلى مزالق الأهواء، والانفعالات التي تعود إلى ماقبل المدينية.
alnaem@gmail.com